الفـن الشكلاني والوظيفة الفنية

عن علاقـة الجمالية والفـن




من الضروري أن نفصل الجمالية عن الفن، لأن دورها ينحصر عموما في تقديم أحكام حول إدراك العالم. في الماضي كان أحد قطبي الوظيفة الفنية هو قيمتها الزخرفية. وبالتالي، فإن قسما من أقسام الفلسفة التي تعالج مفهوم «الجميل» - ومن ثمّ مفهوم الذوق - كان يتحتم عليه أن يناقش الفن بدوره.
عن هذه «العادة» تولدت فكرة وجود علاقة بين الفن والجمالية. وهذا خطأ. فإلى حدود الأيام الأخيرة لم تكن هذه الفكرة على الإطلاق تدخل في صراع مباشر مع الاعتبارات الفنية، لا لأن الخصائص الشكلية للفن تعمل على استمرار هذا الخطأ فحسب، بل لأن وظائفه الأخرى الظاهرة والباطنة كانت تستخدم الفن أيضا، وذلك من أجل إخفائه (الرسم والموضوعة الدينية - صور الأرستقراطيين اليدوية - عناصر الهندسة، الخ...).

فحينما تعرض عناصر ما في سياق فني (إلى حدود زمن متأخر كنا نفعل ذلك) فإنها تستحق أن يكون اختيارها حسب اعتبارات جمالية كما هو الشأن بالنسبة لأي عنصر في العالم. وحينما نعتبر من منظور جمالي عنصرا ينتمي إلى مملكة الفن، فهذا يعني أن وجود (وظائفيته الفنية) لا علاقة له بالحكم الجمالي.

إن أية علاقة بين الجمالية والفن لا يمكن لها أن تتم دون التذكير بالعلاقة القائمة بين الجمالية والهندسة المعمارية، مادام أن هذه الأخيرة لها وظيفة ذات خصوصية متميزة؛ إذ مهما كانت ميزة رسمها، فإن هذا الرسم هو نسبي في موازاة إنجاز الوظيفة. لذا، فإن الأحكام التي نبديها حول مظهرها (أي الهندسة المعمارية) تطابق الذوق، على أساس أنه باستطاعتنا أن نميز على امتداد التاريخ أمثلة متنوعة ترضي ذوق حقب مختلفة طبقا للجمالية الخاصة بها. على أننا نجد الفكر الجمالي قد استعار أمثلة من الهندسة المعمارية لا علاقة لها بالفن، وذلك ليجعل منها نتاجات فنية قائمة الذات. (أهرام مصر مثلا).

وهكذا، فإن كل الاعتبارات الجمالية هي في الحقيقة غريبة، دوما، عن وظيفة العنصر أو عن علة وجوده، باستثناء أن تكون علة وجود هذا العنصر جمالية محضة. لذلك، فإن كل عنصر زخرفي هو مثال لعنصر خالص الجمال وذلك بمقدار ما تنحصر الوظيفة الأولى للزخرفة في «إضافة شيء ما قصد ممارسة فعل التجميل والتزيين وتحقيق الانجذاب». هذه قضية ترتبط كليا بالذوق: الشيء الذي يقودنا مباشرة إلى الحديث عن الفن الشكلاني وعن نقده.

2 - عن الفـن الشكلاني

يوازي هذا الفـن سواء كان رسما ونحتا طليعة الزخرفة. وبعبارة أصح، نستطيع التأكيد بكل إنصاف على أن وظيفته الفنية قد اختزلت في هذه النقطة بالذات إلى درجة أن الأمر لم يعد يتعلق، وظائفيا، بفن، وإنما بتمارين جمالية خالصة، خصوصا إذا علمنا أن كلمان غرنبيرغ Clément Greenderg هو أولا وقبل كل شيء ناقد ذو ذوق أصيل. فوراء كل اختيار لديه، نصادف حكما يعكس ذوقه، ما هو هذا الذوق يا ترى؟ إنه الحقبة التي فرض نفسه خلالها ناقدا: أي الخمسينيات التي تعد حقبة حقيقية بالنسبة إليه [...]

في اللوح الفلسفي المصقول للفن، وكما قال دون جاد Don Judd، «إذا كنا نسمي هذا فنا، فهو كذلك». ومتى قبلنا هذا القول، فإننا نعترف للرسم وللنحت الشكلانيين بوضعية فنية، على أساس أن لا نراعي سوى مظهرهما باعتباره يجسد فكرة عن الفن. (مثلا: لوحة تشد إلى سند من الخشب وتكون ملطخة بألوان، كما تستعمل أشكالا، إضافة إلى ما توحي إليه من تجربة رؤيوية، الخ.)

إذا ما اعتبرنا الفن المعاصر من هذه الزاوية، فإننا سندرك المجهود الإبداعي المتدني للفنانين الشكلانيين، بل وعموما ضعف كل الرسامين والنحاتين الذين يشتغلون اليوم بهذه الطريقة؛ كما أننا سندرك أن الفن والنقد الشكلانيين لا يقبلان تعريفا للفن سوى التعريف الذي يستند على معايير شكلية. إذ حينما تبدو عناصر أو صور متماثلة (أي لها علاقة بصرية) قادرة على أن تكون متقاربة (أي مترابطة) بسبب تشابه «القراءات» البصرية التجريبية، حينذاك لن يكون بإمكاننا أن نقر بوجود علاقة فنية أو تصورية.

من البديهي إذن أن قناعة النقد الشكلاني هي بالضرورة - وطبقا لمعايير الشكلية - مسؤولة عن نوع من الانحياز إلى شكل الفن التقليدي. وبهذا المعنى، فإن النقد ليست له أية علاقة حقيقية بالمنهج العلمي ولا بأي منهج تجريبي رغم أن مكاييل فريد Michael Fried قد حاول إيهامنا في هذا الصَّدد انطلاقا من أوصافه المفصلة والدقيقة لبعض اللوحات وكذا عبر ثقافته الجامعية.

من هنا، فإن النقد الشكلاني ليس إلا مجرد تحليل عناصر ملموسة لموضوعات خاصة توجد أصلا في سياق «شكلي عادي»؛ إلا أنها لا تضيف أية معلومة (أي حدث) لما نعرفه عن الطبيعة أو الوظيفة الفنية. كما أنها لا تلقي الأضواء على قضية معرفة ما إذا كانت العناصر المدروسة ليست إلا مجرد نتاجات فنية. وهذا يعني أنها تتجنب دوما الوقوف على «المفهوم التصوري» للنتاج الفني. أما سبب ذلك، فإنه يعود بالتحديد إلى كون الفن الشكلاني لا يبدو فنا إلا من خلال تشابهه مع نتاجات فنية سابقة. إنه فن بدون محتوى. وهذا ما يجعل فنانيه ونقاده يحجمون عن طرح تساؤلات حول جوهر الفن خصوصا ونحن نعلم أن الفنان حينما يتقبل الفن، فإنه يتقبل كذلك «التقليد» الذي يرافقه، لأن مصطلح «الفن» هو مصطلح عام، بينما «الرسم» هو مصطلح خاص [...]

من هذا المنطلق، فإن الفن المعاصر والإنجازات السابقة تبدو مرتبطة بحكم مظهرها الشكلي. بتعبير آخر، إن «اللغة الفنية» تظل هي نفس اللغة، ولكنها تعبر عن أشياء جديدة. ومن ثم، فإن الحديث عن لغة جديدة، مع الحفاظ على معنى للفن، هو الحدث الذي يندرج في نطاق الفن الجاهز المصنوع Ready-made.

انطلاقا من هذا التيار، لم تعد «نفعية» الفن تنحصر في شكل اللغة، وإنما في ما يقوله: الشيء الذي يعني أن الفن الجاهز لم يجعل من الفن قضية شكل، بل قضية وظيفة. إن هذا الانتقال من المظهر إلى التصور هو الذي طبع بداية الفن الحديث وكذا بداية «الفن التصوري» L’art conceptuel لأن الفن بعد «دوشان» ليس إلا تصوريا؛ وكل فنان أتى بعده لا يحاول سوى إضافة مقترحات جديدة.

لهذا مثلا، فإن قيمة التكعيبية تكمن في فكرتها الخاصة بالمجال الفني، لا في الميزات الفزيقية أو البصرية للوحة لها خصوصية محدَّدة، ولا في بعض الألوان والأشكال، لأن هذه الأخيرة تشكل لغة الفن لا دلالته. وعليه، فكلما اعتبرنا اليوم رائعة تكعيبية على أنها فن، فإن هذا يعد حكما عبثيا من منظور تصوري. إن هذه المعلومة البصرية التي انفردت بها التكعيبية قد تمَّ اليوم استيعابها بصفة عامة. كما أنها أصبحت ذات أهمية في الطريقة التي نعالج بها الرسم من الوجهة السمانتيقية. من ذلك مثلا أن ما يعنيه رسم تكعيبي على المستوى التجريبي والتصوري بالنسبة لناقد شكلاني يتموضع بعيدا عن تخميناتنا، لأن نفس الرسم كانت له دلالة مخالفة للدلالة التي يملكها اليوم.

إن الرسم لا «يوجد» إلا عبر تأثيره على فن آخر لا باعتباره بقايا ملموسة لأفكار فنان ما. لذا، فإذا كان بعض فناني الماضي «يحيون من جديد»، فما ذلك إلا لكون بعض مواصفات نتاجهم أصبحت مستعملة من لدن فنانين أحياء. وهذا ما يبدو عائقا دون إدراكنا بأنه لا توجد حقيقة في المجال الفني.

فما هي وظيفة الفن وما هي وظيفة الطبيعة إذن؟

إذا ما استمررنا في اعتبار الأشكال الفنية «لغة» للفن، فإننا سنصل إلى الإدراك التالي وهو أن النتاج الفني هو بطريقة ما اقتراح نقدمه في السياق الفني على أنه «تعليق على الفن». وبما أن كل اللغات التي يعبر بها الفنان عن مقترحاته هي في الغالب «شفرات» أو «لغات خاصة»، فهذا يعد حصيلة حتمية لحرية الفن في موازاة الضغوط الشكلانية
منقول للمعرفة